في ظل وجود أكثر من تفسير لمصطلح ”الاقتصاد القائم على المعرفة“، فإن أحد أكثر الأبحاث التي يُستَدلُ بها في تعريف هذا المصطلح تُحَدِّد الاقتصاد القائم على المعرفة على أنه «أنشطة مكثفة من الإنتاج والخدمات المستندة إلى المعرفة تُسهِم في إحداث تقدم تكنولوجي وعلمي سريع يقابله تَقَادُم بنفس الوتيرةِ. إن المكون الرئيسي لإقتصاد المعرفة هو الإعتماد بشكلٍ أكبر على القدرات الفكرية أكثر من الإعتماد على المُدْخَلات المادية أو الموارد الطبيعية» (باول وسنلمان 2004).
في العالم العربي، أصبحت التنمية الاقتصادية القائمة على المعرفة متشابكة بشكلٍ وثيق مع القدرات التنافسية الوطنية والسياسات الاقتصادية الداعمة للإبتكار، وتطوير التكنولوجيا، وريادة الأعمال، والإرتقاء بمهارات القوى العاملة، وتبني هياكل تنظيمية عالية الأداء، وتطوير البنية التحتية لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات (التخطيط 2010).
واستنادًا إلى الخبرات التنموية لبلدانٍ متقدمة مثل فنلندا وسنغافورة وكوريا والولايات المتحدة، وبريطانيا، يُحَدد (جان فرانسوا ريشارد 2009) خمسة مبررات مشتركة للتنمية الاقتصادية (خلق فرص العمل، والتكامل الاقتصادي، والتنويع الاقتصادي، والاستدامة البيئية، والتنمية الاجتماعية) وهي أهداف صاحبت التحولات الناجحة للإقتصادات القائمة على المعرفة. وتُظهِر مراجعة خطط التنمية الاقتصادية الوطنية في جميع أنحاء المنطقة العربية،، أن سبعة عشر بلداً من البلدان الإثنين والعشرين في الوطن العربي لديهم تنمية لإقتصادٍ قائم على المعرفة تم تحديده على أنه أحد أهداف سياسات اقتصادية متوسطة إلى طويلة الأمد. ومن خلال تطبيق المسوغات الاقتصادية لتحقيق التنمية الاقتصادية القائمة على المعرفة في العالم العربي والتي أشارَ إليها «ريشارد»، أظهرت جميع الأقطار العربية تقريباً أن المحددات التي رسمها النموذج الدولي ترتبط على نحوٍ أكبر بتحقيق تحولات ناجحة في خطط التنمية الاقتصادية الوطنية باتجاه تنمية اقتصادية قائمة على المعرفة.
ويلاحظ البروفيسور عبدالقادر جيفلات 2009 أن التحول إلى الاقتصادات القائمة على المعرفة برزَ كهدفٍ إنمائيّ في العديد من بلدان المنطقة في أواخر التسعينات بسبب أوجه التشابه بينها في الثقافة والبيئة الاقتصادية والتطورات الاجتماعية والسياسية التي تشهدها تلك البلدان. ويُشير (سوهِل Sawhel 2009) إلى الأهمية التاريخية في البحث عن مصادر التعلم، والمعرفة المتأثرة بالمعتقدات الدينية، وهجرة العقول العربية من العلماء والأكاديميين النابغين، والمفاهيم المتعلقة بمسألة التخلف في المجالات التنموية في المنطقة كعوامل ثقافية محفزة للتنمية القائمة على المعرفة.
هناك دراسات كثيرة تناولت العوامل الاقتصادية التي تُسهِم في التوجه نحو التنمية الاقتصادية القائمة على المعرفة. وفي هذا الإطار يُقَدِّم (العلي1991) أدلة تشير إلى أن دول المنطقة تعتمد على التقنيات الأجنبية بينما تواجه في نفس الوقت نقصاً في الكوادر التي تتمتع بكفاءةٍ عالية، إضافة إلى عدم القدرة على نقل التقنيات بطريقة تُطَوِّر من أداء القوى العاملة الوطنية. كما أن الزيادة التي تحققت في العوائد الرأسمالية لم تقترن بتحقيق مكاسب في المجالات الصناعية ذات القيمة المضافة العالية أو زيادة في القدرات التصديرية، مما أدى إلى بروز صناعات منخفضة الجودة في العديد من البلدان والتي يمكن وصفها بأنها ”اقتصادات بازار“ (جيفلات2009 ). ومع أن الاستثمار الأجنبي المباشر قد نما بمعدل نمو سنوي مركب بلغ 33٪ في الفترة الزمنية الممتدة بين عاميّ 2000 و 2009، إلا أن حصة العالم العربي من ذلك الاستثمار لم تتعدى في عام 2009 سوى 41 مليار دولار، أي 4٪ فقط من تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر في جميع أنحاء العالم، في حين أن الاقتصادات الناشئة في أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي اجتذبت ما مجموعه 7٪، بينما اجتذبت دول شرق آسيا والمحيط الهادئ 19٪ (البنك الدولي 2010). ونَجَمَ عن معدلات الإنتاجية المنخفضة حدوث تراجع في الكفاءة العامة للإستثمارات الرأسمالية. فعلى سبيل المثال ، في الفترة الممتدة من 1975 وحتى 2000 ، كانت مصر وعُمان وسوريا وتونس هي البلدان الوحيدة في العالم العربي التي حققت نمواً إيجابياً في المعدل الإجمالي للإنتاجية («سالا-إي-مارتن» و «أرتادي» 2002). لقد تَطَلَبَ التكامل الاقتصادي، مدفوعاً بانضمام العديد من الدول العربية إلى منظمة التجارة العالمية والعولمة، اعتماد إصلاحات اقتصادية لتحسين البيئة المواتية للأعمال التجارية، وريادة الأعمال، وجذب الاستثمار الأجنبي المباشر (برنامج الأمم المتحدة الإنمائي 2002).
وتبرز أهمية الإصلاحات ذات الصلة بالبيئة المواتية للأعمال من خلال الهيكل الصناعي للمنطقة حيث تمثل الشركات الصغيرة والمتوسطة 90٪ من إجمالي عدد الشركات، كما أنها توظف ما بين 40٪ إلى 65٪ من القوى العاملة (هيرتوغ 2010). وقد أبرزت تقلبات أسعار النفط، التي تحكم فترات الازدهار والركود في المنطقة، الحاجة إلى اقتصادات أكثر تنوعاً (برنامج الأمم المتحدة الإنمائي 2003). كما تواجه المنطقة أيضًا حالة عدم اليقين التي يفرضها عصر ما بعد نضوب النفط وما بعد الكربون والذي يتطلب الآن الإستعداد لمواجهة تحديات كبيرة على صعيد المياه والطاقة والمواد الغذائية وتغير المناخ، إضافة إلى قضايا أخرى (ريشارد 2009).
لقد ظل الإنفاق على البحث والتطوير في العالم العربي، وهو أحد المدخلات الهامة للتنمية الاقتصادية القائمة على المعرفة، دون المتوسط على مدى أكثر من أربعة عقود، حيث تراوح بين 0.1٪ و 1.0٪ من إجمالي الناتج المحلي، واعتمد بشكلٍ كبير على الإنفاق الحكومي، في حين أن الدول المتقدمة تنفق أكثر من 2.5٪ من ناتِجَها المحلي الإجمالي على البحث والتطوير حيث يُسهِم القطاع الخاص بنصيبٍ كبير من ذلك الإنفاق (منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة 2010). لقد أدت المستويات المنخفضة للبحث والتطوير في المنطقة العربية إلى ظهور وعي متجدد في التسعينيات بأهمية العلوم والتكنولوجيا في المجالات التنموية مما عجّل بانتهاج سياسات البحث والتطوير بغرض تعزيز أنظمة الابتكار والإصلاح التربوي (جيفلات 2009). وقد أحرزت العديد من الدول العربية تقدمًا كبيرًا في تطوير البُنَـى التحتية للمعلومات والاتصالات بغرض دعم الاقتصادات القائمة على المعرفة، وتفوقت فيها على أعمال تطوير مماثلة في مناطق أخرى من العالم («المؤسسة» و«برنامج الأمم المتحدة الإنمائي» 2009).
اهتمت الدراسات الاجتماعية والسياسية حول التنمية الاقتصادية القائمة على المعرفة بمسألة تضخم البنيات العمرية الشبابية في التكوين الديموغرافي العربي. وعلى الرغم من اختلاف التقديرات بناءً على افتراضات النمو السكاني، يُوجَد حوالي 66 مليون شاب عربي تتراوح أعمارهم بين 15 و 24 عامًا، ومن المتوقع أن يرتفع هذا العدد إلى 88 مليون شاب بحلول عام 2030. ويُشَكِّل الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و 24 عامًا نسبة 20٪ من إجمالي عدد السكان (الأمانة العامة للأمم المتحدة 2008). وتُعتَبَر هذه الشريحة الشبابية بمثابة تمكين للنمو الاقتصادي في المنطقة وفي نفس الوقت تُمثل تهديداً محتملاً. ويؤكد («ديليون» و«يوسف» 2009) أن التنمية الإقليمية قد تجاوزت شريحة الشباب بسبب الضعف المؤسسي الذي جعل الشباب أسوأ حالاً من نظرائهم من الأجيال السابقة الذين استفادوا من فرص التعليم المجاني وضمانات التعيين في الوظائف الحكومية والدعم القوي من الدولة من خلال إعانات ومزايا حكومية متنوعة. وبالنسبة للعديد من الشباب العرب، فإن هذا يعني أن نحو 24٪ منهم يعانون من بطالة مزمنة ومستمرة من إجمالي عدد الشباب العربي العاطل عن العمل في الوقت الحاضر. وفي هذا الإطار، ارتفع عدد العاطلين عن العمل في الفترة الممتدة من 1998 وحتى 2008، إلى معدل 25 ٪، وهو اتجاه من المتوقع أن يستمر في المستقبل (منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة 2010).
لقد حققت أقطار العالم العربي مكاسب ملحوظة في إتاحة فرص التعليم والذي انعكس بدورهِ على إحداث تأثير غير مقصود نجم عنه فجوة كبيرة بين العرض والطلب في سوق العمل حيث تتجاوز فيه أعداد الشباب المتعلمين تعليماً عالياً العدد المُتاحَ من فرص العمل (برنامج الأمم المتحدة الإنمائي2010). إن تحقيق التكافؤ الكامل أو شبه الكامل بين الجنسين في العديد من البلدان العربية في مجال التعليم جعل إدراج سوق العمل النسائي أولوية سياسية ضرورية في معظم الدول العربية (منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة 2010)، كما ضَيقَّت الزيادة في أعداد السكان من هامش فرص العمل المتوفرة في القطاع العام والذي يفضله الموظفون العرب عن العمل في القطاع الخاص. وبالإضافة إلى ماتقدم، فإن أنظمة التعليم لا تلائم احتياجات التنمية الاقتصادية القائمة على المعرفة («ديليون» و«يوسف» 2009). وفي حين أن القطاع العام قد يستمر في كونهِ مصدراً للتوظيف، إلا أن الوظائف التي يوفرها القطاع الخاص بشكلٍ متزايد تستوعب العاطلين عن العمل والباحثين الجدد عن عمل («يوسف» 2005). وفي دول الخليج ، هناك تعقيد آخر يتمثل في وجود أعداد كبيرة من العمالة الوافدة تعمل في القطاع الخاص في مقابل العمالة المواطنة التي تعمل بشكلٍ شبه كامل في القطاع العام. وفي حين أن سوق العمل الذي يعتمد على العمالة الشابة المتنامية يمكن أن يكون مفيداً للتنمية الاقتصادية إذا ترافقَ ذلك مع خلق فرص عمل جديدة كما كان الحال في بلدان شرق وجنوب شرق آسيا، إلا أن الحال ليس كذلك في العالم العربي حيث أصبح العديد من الشباب إما عاطلين عن العمل أو نالَهم الإحباط، كما أن أعداداً منهم التحقت بالعمل في الاقتصاد غير الرسمي منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة 2010). لذا ينبغي النظر باهتمامٍ خاص إلى الإستياء في أوساط الشباب العربي في ضوء الأحداث الأخيرة. وفي هذا الصدد، يرى («أوردال» 2006) أن هناك علاقة بين الزيادة في أعداد القطاعات الشبابية التي تعاني من الصعوبات الاقتصادية من جهة، وبين مظاهر العنف السياسي من جهةٍ أخرى. كما أن المنظمات الدولية أكدت على القيمة الحافزة للإصلاح السياسي في المنطقة العربية في تشكيل بيئة مواتية للتنمية الاقتصادية القائمة على المعرفة من منطلق أن ”العديد من قيم وإنجازات مجتمع المعرفة لا يمكن فصلها عن الحرية وبناء العقود الاجتماعية والمؤسسية دعماً لمجتمعات يتم فيها إعلاء قيم الحقوق الفردية وسيادة القانون“ («المؤسسة» و«برنامج الأمم المتحدة الإنمائي» 2009). لقد استمرت هذه الأهداف بمعدلات متفاوتة في جميع أنحاء المنطقة حيث أظهرت المؤشرات عمومًا زيادة في مستوى الحقوق السياسية والحريات المدنية والحرية الاقتصادية («المؤسسة» و«برنامج الأمم المتحدة الإنمائي» 2009 ؛ «هاوس» 2011؛ «ميلر» و«هولمز» 2011).
وقد تزامن عمل المنظمات الدولية، مثل البنك الدولي وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، مع الإصلاحات الحكومية باتجاه تأسيس اقتصاديات قائمة على المعرفة في العالم العربي من خلال التمويل والمساندة والدعم التقني؛ فعلى سبيل المثال، بين عامي 1990 و 2010، قدم البنك الدولي حوالي 3.4 مليار دولار، في المقام الأول إلى مصر والأردن وتونس، بهدف تخصيصها لمشاريع التعليم التي تستهدف على وجه التحديد تحقيق التنمية الاقتصادية القائمة على المعرفة («البنك الدولي» 2011). كما استضاف البنك الدولي مؤتمراً في عام 2009 تمخضَ عنه صدور إعلان تونس حول بناء اقتصاديات المعرفة الذي دعا إلى إنشاء هيئة انعقاد في إطار المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة بتمويلٍ من الدول الأعضاء («المعهد» 2009). وفي هذا الصدد، نشر برنامج الأمم المتحدة الإنمائي سلسلة تقارير مرجعية، تحت إشراف ريما خلف، عن التنمية البشرية العربية في عاميَ 2002 و 2003 دعت إلى تطبيق عدد من الإصلاحات كما قدمت خارطة طريق للحكومات العربية للإسترشاد بها في الجهود المبذولة لتحقيق التنمية الاقتصادية القائمة على المعرفة (لورد 2008).