نشرت صحيفة «غلف نيوز» الإماراتية الصادرة باللغة الإنجليزية مقالاً تناول رؤية لكيفية سد الفجوة القائمة في المهارات والتي تمثل أحد أهم التحديات التي تواجه أسواق العمل في المنطقة العربية. وقد استشهدَ المقال بالأبحاث التي قامت بها شركة تحسين للإستشارات في هذا المجال. وقد أشرنا في مقالنا هذا إلى بعض المقتطفات في الموضوع المُشَار إليه. وبينما نتفق على أن هناك حاجة إلى المزيد من التقييمات وموائمة الشهادات الدراسية مع التخصصات الوظيفية، إلا أنه من المطلوب على نحوٍ أكبر أن تكون هناك تدخلات على مستوى أرباب العمل قبل أن يكون لهذه المبادرات أي تأثير حقيقي. ونرى أنه من المهم جداً أن تقوم الشركات الإقليمية بزيادة المخصصات الموجهة للإستثمار في العنصر البشري في سوق العمل، وزيادة الموارد الخاصة بالتطوير الوظيفي؛ وهذه تمثل في حد ذاتها معضلات نظامية يجب معالجتها أولاً.

الإستثمار في القوى العاملة

وفي الوقت الذي تتجه فيه الشركات إلى التركيز على دفع أجور أعلى للمهارات المطلوبة بشكل ٍكبير، إلا أن اتجاهات الاقتصاد الكلي وتفشي الإخفاقات في أنظمة التعليم والتدريب تشير إلى وجود نهج، على المدى البعيد، لتكوين المهارات من خلال زيادة واستمرارية برامج الإرتقاء الوظيفي من خلال التدريب ونقل المعرفة («هول» و «لانسبري» 2006). لقد تفشت إخفاقات السوق في تكوين رأس المال البشري حيث تكافح مؤسسات التعليم والتدريب لمواكبة النمو الاقتصادي («هول» 1999). وفي القرن الحادي والعشرين، زادت مسؤولية أرباب العمل في الإستثمار في الموارد البشرية لتشمل ليس فقط تدريب العاملين في شركاتهم بغرض الوصول إلى تحقيق معدلات أداء مرتفعة والمحافظة على ملاءمة المهارات لتخصصات الأعمال التي يقومون بها في ضوء التنافسية التي تشهدها الأسواق، وإنما أيضاً بهدف معالجة عدم كفاية تكوين المهارات العامة السابقة للتشغيل بسبب نظام التعليم والتدريب المهني والإخفاقات المؤسساتية.

وبالنظر إلى النقص الكبير في التكوين المهني والفجوات المهارية التي نشهدها في العالم العربي، نجد أن معدلات التدريب بشكلٍ عام أقل بالمقارنة مع الدول التي تنتهج الإقتصاد القائم على المعرفة، وتطبق أنظمة تكوين مهارات أكثر فعالية، كما أن معدلات التدريب في الوطن العربي أقل أيضاً من الاقتصادات النامية الأخرى مثل البرازيل والصين وروسيا (البنك الدولي 2010).

ويقترح («لال» 1999) أن المهارات الأساسية والمواقف الشخصية والكفاءات التي تم تطويرها من خلال التعليم والتدريب الرسمييّن يجب أن تُسْتَكمَل بتجربةٍ محددة قائمة على التكنولوجيا، وذلك لتطوير المهارات التقنية. كما أن التطور الصناعي والقدرة التنافسية لا يُسْتَمَدَان من التعليم والتدريب الرسمييّن، ولكن من الخبرة العملية في إتقان وتطوير والتعامل مع تكنولوجيات محددة («لال» 2000، صفحة 22).

 وتتحقق زيادة كفاءة التصنيع والإرتقاء بالمهارات من خلال توسيع نظام التعليم إلى جانب رفع كثافة المهارات المطلوبة في مختلف الأنشطة الاقتصادية.

وبالنسبة للبلدان النامية، يقلل هذا النهج من الفجوة التكنولوجية مع البلدان المتقدمة، بينما يرفع الطلب على العاملين من ذوي الكفاءات العالية، ويوفر في الوقت نفسه التعليم والتدريب اللازميّن للتنمية الاقتصادية («ماير» 2000). ولتجنب معضلة عدم كفاية الحوافز التي تجعل الأفراد ينضمون لبرامج الإرتقاء بالمهارات، يجب على الشركات ربط تحسين الأداء وزيادة الإنتاجية الناتجة عن اكتساب المهارات بمعدلات الأجور والرواتب من خلال زيادة المرونة في تحريك الأجور. («أشتون» و «صنج» 2002).

وتعود رغبة الشركات وقدرتها على توفير التدريب إلى عددٍ من العوامل؛

فمستوى التحصيل العلمي المرتفع للعاملين والموظفين والمدراء يمكن أن يؤدي إلى خفض الاستثمارات في التدريب على مستوى الشركة، بينما يؤدي  مستوى التعليم المتدني للقوى العاملة في الشركة إلى إثارة الشكوك حول قدرتهم على استيعاب برامج التدريب، بينما قد لا يرى المدراء من ذوي المستويات التعليمية المنخفضة أية قيمة لتوفير التدريب أصلاً.

كما أن الحسابات الإدارية لنتائج التدريب تزداد تعقيداً بسبب الفجوات المعلوماتية المتعلقة بالتكنولوجيا، ومتطلبات المهارات في المستقبل، والفوائد المرجوة من برامج التدريب («لال» 1999). وبالإضافة إلى ذلك، نجد أن برامج التدريب المهني المنظم قد تتعرقل في الشركات الأقل قدرة على المنافسة، أو تلك التي تعاني من تراجع في معدلات الإنتاجية، أو الشركات ذات الخطط الاستراتيجية قصيرة المدى، أو الأقل تطوراً في الجانب التكنولوجي، أو ذات الإنخفاض في معدلات الإنفاق الرأسمالي، أو التي لا يتوفر فيها بيئة سياسات اقتصادية ملائمة للنمو.

ويمكن إلزام الشركات بالإعتماد على توفير التدريب الخاص الخارجي إذا لم يكن لديها القدرة الداخلية على توفير التدريب.

وفي الحالات التي يكون فيها قطاع التدريب الخارجي متخلفًا، وتكون أحجام الشركات صغيرة بشكلٍ عام، فإن عدم القدرة على تقليل تكاليف التدريب، اضافة إلى القيود المفروضة على الميزانية، يمكن أن يحدان من انتشار برامج التدريب في الشركات («لال» 2000، و«تسيدرمان» 2003). وهذه الحالة قابلة للتطبيق بشكلٍ خاص في العالم العربي حيث تكون أحجام الشركات صغيرة نسبياً بالمقارنة مع مناطق أخرى من العالم («ويزلي شوالييه» 2013). وقد يؤدي إستقطاب الموظفين من الشركات المنافسة، وميل الشركات إلى توظيف عاملين ذوي مهارات قابلة للتحويل من شركات أخرى، إلى الحد من التدريب في الشركات لأنها تتكبد تكاليف كبيرة لتدريب موظفيها ثم تستقطبهم شركات أخرى وما يترتب على ذلك من أضرار حيث تجني الشركات الأخرى فوائد التدريب بدون أن تدفع فلساً واحداً. وفي بيئة ذات مستويات عالية من استقطاب الموظفين ستقلل شركات التدريب من برامج التدريب، أو تقدم فقط تدريباً عالياً محدداً لا يمكن نقله إلى شركات أخرى («أسيموجلو» و«بيسكيه» 1998).

وينبغي تقديم حلول استراتيجية مصممة وفقًا للسبب الرئيسي نظرًا لتنوع أسباب عدم توفير التدريب بشكلٍ كافٍ في الشركات.

لقد ثبتت فعالية تقاسم المسئولية بين الحكومة والشركات في تنمية مهارات القوى العاملة في الحالات التي حجبت فيها الشركات الإستثمار في تدريب مواردها البشرية؛ فالإعانات الحكومية في مجال التدريب مكنت الشركات من تطوير قدراتها التدريبية. وفي هذا الصدد، يمكن إتباع نهج أكثر استدامة وطويل الأجل من خلال تقديم التدريب الإستشاري والدعم التقني بتمويلٍ من صناديق التدريب الوطنية ومخططات منح الضرائب. وفي هذا المقام، يجدر بنا الإشارة إلى احدى المبادرات البارزة في هذا الإطار والمتمثلة في «صندوق الوقف» الذي يُعنَى ببحوث التمويل الإسلامي والتعليم والتدريب ويتخذ من مملكة البحرين مقراً له، حيث يقوم الصندوق بتدريب العاملين في القطاع المصرفي الإسلامي استناداً إلى مساهمات تدفعها المؤسسات المالية الخاصة ويتم استثمارها في أدوات سوق المال، وتُخَصَص عوائدها لصالح مبادرات التدريب. كما يعمل «صندوق تنمية الموارد البشرية» في المملكة العربية السعودية بطريقةٍ مماثلة.

الخلاصة أنه عندما يكون قطاع التدريب الخاص ضعيفاً، يمكن للحكومة الدخول على الخط والإضطلاع بدورٍ انتقالي لبناء قدرات مكاتب التدريب الخاصة مع التدريب المقدم من القطاع العام.

وتعتبر خطط فرض ضريبة بسيطة لتمويل التدريب في الشركات فعالة في الحد من استقطاب الكوادر الماهرة بين الشركات. وبموجب هذه المخططات، تتلقى الشركات التي تقدم التدريب إعانات لتمويل برامج التدريب بينما لا تتمكن الشركات التي لا تدرِّب موظفيها من الحصول على هذا التمويل حيث أنها أكثر احتمالاً في التوجه نحو ”سرقة“ الكفاءات البشرية من الشركات الأخرى التي لديها برامج تدريب («تسيدرمان» 2003).

تطوير القوى العاملة

يحدد («جيكوبس» 2002) مسألة تطوير القوى العاملة كتعاون بين كلٍ من مؤسسات التعليم والتدريب، والشركات، والحكومات بهدف توفير وظائف مجزية للعاملين من جهة، وتزويد الشركات بالكفاءات الماهرة التي تحتاج إليها من حيث الكم والكيف من جهةٍ اخرى. ولابد من قيام مجتمع الأعمال العربي بدورٍ موسع باتجاه الموائمة بين المهارات التي يتم توفيرها في أنظمة التعليم والتدريب الرسمية وتلك المطلوبة في أسواق العمل في ظل ارتفاع معدلات البطالة في صفوف الشباب العرب واخفاق أنظمة التعليم والتدريب في تكوين المهارات الأساسية لهؤلاء الشباب. وفي كثيرٍ من الأحيان يحصل الشباب الذين يخوضون فترة التدريب العملي، أو الذين يعملون كمتدربين، على معدلات أجور أقل حيث يتم دمج الخبرة العملية في البنية التعليمية الرسمية، ويمكن أن يساعد التعلم في الفصل الدراسي على تسهيل الإنتقال من المدرسة إلى العمل وضمان توظيف الخريجين الشباب («كوينتيني إيت آل» 2007).

انّ إدراج أرباب العمل في تصميم المناهج،  وتحديد مجموعات المهارات المطلوبة للخريجين، ووضع المعايير ، والإعتماد الأكاديمي لمؤسسات التعليم والتدريب يمكن أن يضمن تطور أنظمة التعليم والتدريب جنباً إلى جنب مع احتياجات سوق العمل المتغيرة.

ومن خلال العضوية في الجمعيات والروابط المهنية، يمكن للشركات أيضاً أن تقوم بدور الحوكمة في نظام تكوين المهارات («أكرويد»، و«بَت»، و«طمسون»، و«تولبرت» 2005).

 ومع ذلك، في البلدان النامية، قد يكون الدور الرقابي الذي تقوم به عادةً المنظمات العلمية والمهنية والمراكز البحثية محدوداً بسبب نقص القدرات. ويضمن تطوير القوى العاملة أن يتم تعيين الموظف المناسب في المكان المناسب لكفائتهِ العملية وتخصصه العلمي كما يضمن تلبية متطلبات التوظيف وأنظمة التدريب من خلال تقليل عدم تناسق المعلومات الذي يقلل من الإستثمار الفردي في اكتساب المهارات. ولابد من إشراك أرباب الأعمال وأصحاب الشركات في وقتٍ مبكر في صياغة الإحتياجات المستقبلية من المهارات حيث أن ذلك من شأنهِ تقليل الحاجة إلى الإستثمار في تدريب القوى العاملة للتغلب على أوجه القصور في المهارات العامة الناجمة عن تدني جودة نظم التعليم والتدريب.