في بداية التسعينيات من القرن الماضي، لعب البنك الدولي والأمم المتحدة دورًا مهمًا في نشر المهن عالية الكفاءة في العالم العربي، بالتزامن مع توجهات اقتصادية على المستوى العالمي باتجاه تبني الاقتصادات القائمة على المعرفة لتحقيق النمو الاقتصادي وما صاحب ذلك من بروز الوظائف المهارية ذات الأجور المرتفعة.
وبالإضافة إلى التركيز على المهارات العالية، وخلق فرص عمل بأجور مرتفعة، فإن تعريب مفهوم الاقتصاد القائم على المعرفة أدى إلى إدماج التنمية الاقتصادية مع مجموعة من القضايا التنموية الأخرى مثل التكامل الاقتصادي، والتنويع، والابتكار، وريادة الأعمال، وإصلاح نظم التعليم والتدريب، والاستدامة البيئية، والهوية، واللغة، والمساواة بين الجنسين، والمشاركة السياسية، والإصلاح الديمقراطي. ومع ارتباطهِ بتنمية رأس المال البشري، فإن مفهوم الاقتصاد القائم على المعرفة أدى لظهور سردية مُقنعة للتنمية الاقتصادية اعتمدت على مخاطبة الجوانب السيكولوجية للجماهير العربية، بيد أنها، كما يتضح من الربيع العربي، فشلت بصورة واضحة في تلبية الاحتياجات المادية الملموسة لتلك الجماهير.
أحلام الفرص الاقتصادية والوعود التي لم تتحقق
وعلى الرغم من حقيقة أنه لا يوجد الكثير من الدراسات الاستقصائية للرأي العام في المنطقة والتي يمكن أن تعطي مؤشراً على مدى فعالية وكفاءة تواصل الحكومات العربية بشكلٍ مفتوح ومتناغم مع الحلم العربي، أظهر استطلاع رأي حديث لـشريحة مكونة من 16,000 مواطن في 21 دولة عربية عدة مصادر للانهيار. ولقد تم تنفيذ هذه الدراسة المسحية في أواخر عام 2010 وأوائل عام 2011 قبل أن إندلاع أحداث الربيع العربي ووصولها إلى نقطة الغليان. ويقدم الاستطلاع مؤشرًا أساسياً لبذور الاستياء العديدة والتي تشير إلى الوعود التي لم يتم الوفاء بها والمرتبطة بالتوجه نحو الاقتصادات القائمة على المعرفة في العالم العربي ومانجم عن ذلك من تحطيم فرص النهوض الاقتصادي وخلق فرص العمل للشباب بشكلٍ خاص في الدول العربية الأقل ثراءً خارج منطقة الخليج. وأشار المشاركون في الدراسة الاستقصائية إلى شح فرص العمل في البلدان العربية، والافتقار إلى الأنظمة التعليمية الفعالة؛ وقلة الفرص المتاحة للشباب لمساعدتهم على المضي قدمًا من خلال العمل الجاد والدؤوب؛ والتوقعات المتشائمة للنمو الاقتصادي؛ والمشقة البالغة في توفير أساسيات الحياة مثل تأمين مسكن ميسور التكلفة (صلتك 2010).
وفي العديد من البلدان، يشير المواطنون إلى أنهم يفضلون الهجرة لتحقيق أحلامهم خارج بلدانهم الأصلية.
تأمين حلم عربي قابل للتطبيق
كيفية استجابة الحكومات العربية للفرص الاقتصادية الضائعة في الفترة التي أعقبت أحداث الربيع العربي يمكن أن تُحدث فرقًا لدى جيل ضائع من الشباب مُبتلى بالبطالة المزمنة والتهميش الاجتماعي، فضلًا عن تأثيرها بشكل كبير على الأجيال القادمة. الشباب الساخط لديه القدرة على أن يصبح شوكة تهديد دائمة في خاصرة الدول العربية، حيث يوجد ارتباط بين الاستياء عند الشباب الذي يعاني من الصعوبات الاقتصادية والعنف السياسي. إن عدم الرضا بين الشباب العربي بسبب عدم توفر فرص العمل، أو الدراسة بالمجان، أو التعيين في القطاع العام، أو الدعم المقدم من دعم الدولة، يمكن في مجملها أن تشكل خطرًا كبيرًا على خطط التنمية الاقتصادية الطموحة.
لقد كان الربيع العربي في جزئية منه نتيجة إيمان الناس بالحلم العربي، واستثمار وقتهم وأموالهم في التعليم، ولكن بعد ذلك وجدوا أن مؤهلاتهم وعملهم الشاق في مهب الريح بما لا يسمح لهم بتحقيق أحلامهم في العمل في وظائف مجزية وتحقيق ما يصاحب ذلك من تطور اجتماعي واقتصادي.
ويرتكز الحلم العربي على السعي الإقليمي لتحقيق تنمية اقتصادية قائمة على المعرفة مدفوعة بسياسات تتصور ظهور اقتصادات توفر فرص عمل عالية المهارة ومرتفعة الأجر. ومع ذلك، فإن وجود معروض عالمي كبير من العمالة منخفضة التكلفة ذات المهارات العالية، والزيادة المطردة في أعداد تلك القوى العاملة، من شأنه تهديد قدرة هذه العمالة على الاستمرارية أمام وفرة المعروض وقلة الفرص المتاحة، كما يُهدد أيضًا الأسس الاقتصادية للصناعات المتطورة القائمة على المعرفة والموجهة نحو الابتكار والتي أصبح لها مَوْطِئُ قدم في المنطقة العربية، وبالتالي انعكس ذلك بالسلب على القيمة السوقية للعمال المهرة. وإذا أخفقت الصناعات القائمة على المعرفة في إثبات نفسها وقيادة سوق العمل، فإن العديد من الإصلاحات والأموال التي تم إنفاقها على التوسع في التعليم العالي، وجودة التعليم، وأنظمة البحث والتطوير، ونمو المشاريع يمكن اعتبارها جهوداً وامكانات مهدرة.
لقد كان الربيع العربي تذكيرًا واضحًا للغاية بأن تأمين حلم عربي قابل للتطبيق هو قضية رئيسية تحظى باهتمام الحكومات الإقليمية.
ويجب على الحلم العربي أن يشتمل على فرصة معدلة يكون من أهدافها كيف يمكن توفير حياة كريمة للأشخاص المُهمشين الذين ارتفعت أصواتهم في الربيع العربي مُطالبين بتوفير سبل العيش الكريم. وخلق هذه الفرصة لا يقتصر فقط على وضع معايير قياس مرجعية وتقليد مسارات التنمية الاقتصادية للبلدان الغنية والمتقدمة، وإنما يشمل أيضاً إدراك التحديات التي تواجهها الاقتصادات العربية في عصر العولمة وظهور "عمال المعرفة" من ذوي الأجور المتدنية والمهارات العالية، والذين غيروا أساسيات القطاعات الاقتصادية القائمة على المعرفة.
وفي حين أن البيئة الاقتصادية في بعض الدول العربية أكثر ملاءمة للتنافس في الاقتصاد العالمي الذي يتطلب مهارات عالية وأجوراً منخفضة، فإن دولاً عربية أخرى، لا تستطيع المنافسة في الصناعات المرتكزة على المعرفة عالية الأجور وذات المهارات العالية، ستحتاج إلى تعديل سقف التوقعات لدى مواطنيها فيما يخص نوعية الوظائف التي من المتوقع أن تكون متاحة في المستقبل. وسيتعين عليهم أيضًا تفسير عدم الاستقرار المحتمل للرواتب بسبب ضغط الأجور من العمال المنافسين ذوي الأجور المتدنية والمهارات العالية.
وقد تتعثر الجهود المبذولة لخصخصة التحصيل العلمي إذا لم يقابلها طلباً كافياً على المهارات من سوق العمل.
ومن المرجح أيضاً فشل التدخلات الحكومية السريعة لمعالجة المعضلات الاقتصادية المزمنة، حيث ستضطر الحكومات العربية إلى القيام بمراجعة شاملة للاستشارات الاقتصادية التي تلقتها خلال العقدين الأخيرين لتقييمها والوقوف على فعاليتها وقيمتها في تأمين المصالح الاقتصادية للمنطقة العربية. ويجب أن تتحدى الإصلاحات الرامية إلى إعادة تنشيط الحلم العربي الافتراض القائل بأن المزيد من التعليم هو الحل دائماً، مع إعادة النظر في وعود التوظيف الكامل الذي يحد من القدرة التنافسية العالمية، والحد من عدم المساواة في الأجور لضمان التوزيع العادل للثروة، وتحديد مكانة العالم العربي على خارطة الاقتصاد العالمي خاصةً مع ظهور قوى عاملة تتميز بالمهارات العالية والأجور المنخفضة، وهو الأمر الذي يتحدى التنمية الاقتصادية القائمة على المعرفة في البلدان المتقدمة والنامية على حد سواء.