أشارت احصاءات مهمة صدرت مؤخراً عن الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء في جمهورية مصر العربية إلى تجاوز عدد المشتركين بالهاتف المحمول فى مصر لستة وتسعين مليون مشترك. ويمثل هذا العدد أكبر قاعدة لمشتركي الهاتف المحمول في بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وقد ارتفع معدل انتشار الهواتف الذكية في مصر بمعدل سنوي مركب وصلَ إلى نسبة 25٪ من 2012 وحتى 2017، وتصل النسبة في الوقت الحاضر إلى 57٪.
ولعل أكثر ما يثير الإعجاب هو أن 98٪ من مستخدمي الإنترنت في مصر يصلون الآن إلى الإنترنت عبر هواتفهم المحمولة. ومع استمرار هذه الأرقام في الارتفاع خلال السنوات القليلة المقبلة، تتطلع أعداد متزايدة من شركات التكنولوجيا العالمية إلى دخول السوق المصري، مما يشير إلى مستقبلٍ واعد لقطاع الاقتصاد الرقمي المصري.
بيد أن استخدام الإنترنت في البلاد يتأثر بالعوامل الجغرافية والاقتصادية على الرغم من هذه الاتجاهات الواعدة؛ فمعظم مستخدمي الإنترنت من المصريين يعيشون في المدن الكبرى والمناطق الحضرية المكتظة بالسكان. القاهرة الكبرى وحدها تضم 40٪ من اجمالي مستخدمي الإنترنت المصريين. يعكس هذا التباين الجغرافي اتجاهات التحضر، وكذلك ارتفاع دخل الأسرة في العاصمة، اضافة إلى السكن في عواصم المحافظات والأقاليم في مصر. ومن هنا سلطت وزارة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات الضوء على القدرة على تحمل تكاليف رسوم الإنترنت كعامل رئيسي وراء هذه الفجوة الرقمية التي تحاول معالجتها، والتي اتسعت بسبب التباطؤ الاقتصادي الذي أعقب ثورة 2011.
التوجهات نحو تحرير سوق الاتصالات في السنوات الأخيرة تُعَد علامة واعدة على أن الحكومة جادة في معالجة الفجوة الرقمية من خلال تقديمها لخدمات عصرية بأسعارٍ أرخص لمستخدمي الهواتف المحمولة. في عام 2014، وافقت الحكومة المصرية على إصدار رخصة موحدة لاتصالات الهاتف الثابت والمحمول، مما يفسح الطريق أمام الشركة المصرية للاتصالات كي تقدم خدمات الهاتف المحمول من خلال شركة (We) التابعة لها. كما وقعت الشركة المصرية للاتصالات وشركة (اتصالات مصر) مذكرة تفاهم في وقت سابق من هذا العام لتوفير خدمات الخطوط الثابتة عبر استخدام البنية التحتية لشبكة المصرية للاتصالات. وفي سبتمبر 2017، أطلقت شركات (أورانج) و (فودافون) و(اتصالات) خدمات الجيل الرابع، كما تم الكشف عن أول اطلاق تجريبي في البلاد لخدمات الجيل الخامس، وذلك ضمن فعاليات المعرض الدولي للاتصالات وتكنولوجيا المعلومات بالقاهرة الذي عُقِدَ في ديسمبر 2017. هذا ويبحث الجهاز القومي لتنظيم الاتصالات الآن في إصدار تراخيص الجيل الخامس.
وفي خطوة لدعم قطاع الاقتصاد الرقمي المزدهر في مصر وسد الفجوة الرقمية، أقرت الحكومة أيضا استراتيجية تكنولوجيا المعلومات والاتصالات 2030 واستراتيجية التجارة الإلكترونية. وتهدف الاستراتيجيتان إلى تحقيق الاقتصاد الرقمي من خلال استخدام أدوات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات عبر دعم وتطوير منظومة فاعلة للمدفوعات الإلكترونية، والإستفادة من تقنيات الحوسبة السحابية، ودعم التعاملات عبر الحكومة الإلكترونية والتجارة الإلكترونية، وتعزيز البنية التحتية بما يدعم تمكين النفاذ عبر الإنترنت.
وتهدف الإستراتيجية القومية لقطاع الإتصالات وتكنولوجيا المعلومات 2030 بشكلٍ خاص إلى إصلاح وتطوير البنية التحتية الوطنية لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات، مع التركيز على أربعة جوانب أساسية: اعتماد تكنولوجيا الحوسبة السحابية في الخدمات الإلكترونية الحكومية؛ وتطوير وتنفيذ مبادرات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات الاجتماعية؛ وتطوير محتوى رقمي محلي وتوفير منصات مفتوحة المصدر لبناء البنية التحتية الرقمية.
وتهدف استراتيجية التجارة الإلكترونية، التي تم إعدادها بالتعاون مع مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية، إلى تدشين مركز لتيسير تعاملات التجارة الإلكترونية، وتأسيس سوق إلكترونية وطنية للتعاملات المباشرة بين المستهلكين والشركات، ودعم مبادرات تنمية التجارة الإلكترونية الريفية، وتوفير حلول الدفع الإلكتروني، فضلاً عن تعزيز تكنولوجيا المعلومات لتمكين القطاعات الخدمية.
الهدف المهم للإستراتيجية هو الإرتقاء بقطاع التجارة الإلكترونية بحيث يحقق نسبة 2.35٪ من الناتج المحلي الإجمالي. وبالطبع هذا هدف طموح حيث أن 0.4٪ فقط من جميع مبيعات التجزئة في مصر تتم حالياً على منصات التسوق عبر الإنترنت بالمقارنة مع المتوسط العام لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا والذي يبلغ 1.8٪. كما حددت الإستراتيجية نفسها لقطاع تكنولوجيا المعلومات والاتصالات تحقيق معدل 7٪ من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2030، ارتفاعاً من 3٪ في الوقت الحالي. وبالنظر إلى أن هناك حوالي 86٪ من البالغين لايتعاملون تجارياً عبر المصارف، نجد أن الجهود الرامية إلى تعزيز برامج الدفع الإلكتروني والخدمات الإلكترونية تنطوي على إمكانات كبيرة لتعزيز الشمول المالي، والحد من الفقر ، وتنمية الاقتصاد.
وكان كلاً من محافظ البنك المركزي، ورئيس الهيئة العامة للرقابة المالية، قد وقعا اتفاقية شملت تعزيز التعاون لدعم الشمول المالي في مصر. كما أعلن البنك المركزي المصري مؤخراً عن اعتزامه ترخيص شركات الدفع الإلكتروني التي تهدف إلى تقديم الخدمات المصرفية. كما أن البنك المركزي المصري يبحث حالياً في إطلاق العملة الرقمية المصرية (إيجي كوين)، وذلك بعد أن حَسَمَ الجدل حول قانونية العملات الرقمية.
وفي نفس الإطار، تعمل هيئة تنمية صناعة تكنولوجيا المعلومات في مصر على تحويل البلاد إلى مركزٍ عالميّ لخدمات التكنولوجيا والأعمال التجارية بالشراكة مع كلٍ من وزارة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، ووزارة الاستثمار والتعاون الدولي.
وهاهي الجهود الحكومية لجذب المستثمرين الأجانب تؤتي ثمارها. وبدأت بالفعل شركات وممولي التكنولوجيا العالمية بالقدوم إلى مصر. وفي هذا السياق، أعلنت هيئة تنمية صناعة تكنولوجيا المعلومات في مصر في وقتٍ سابق من هذا العام أنها توصلت لاتفاقيات مع ست شركات دولية لتكنولوجيا المعلومات والتعاقد الخارجي لتوسيع عملياتها في البلاد، مما سيخلق أكثر من 3,700 وظيفة جديدة في سوق العمل. واستناداً إلى الجهود التي تبذلها وزارتيّ الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، والاستثمار والتعاون الدولي، أعلن عدد من الشركات الدولية الأخرى عن خطط لزيادة استثماراتها في السوق المصرية.
وفي عام 2017 تم تدشين «مركز (أوبر) للتميز» في القاهرة، باستثمار مباشر بقيمة 20 مليون دولار، وهو مركز دعم للعملاء يخدم منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا بأكملها؛ في حين أعلنت الشركة الهندية للهواتف الذكية (لافا انترناشيونال) مؤخراً أنها ستضخ استثمارات جديدة في مصر خلال 2018 بقيمة 10 ملايين دولار أمريكي.
مجموعة الاتصالات الرائدة في إفريقيا «ليكويد تيليكوم» أعلنت عن ربط أول شبكة ألياف ضوئية من كيب تاون إلى القاهرة وأطلقت على هذه الشبكة البينية اسم (شبكة إفريقيا الواحدة للبيانات)، الأمر الذي من شأنه أن يوفر سرعات شبكية أسرع في مصر وعبر إفريقيا.
تطبيق (إس دبليو في إل) للنقل بالحافلات تلقى تمويلاً من الفئة الأولى لمشاريع ريادة الأعمال بقيمة ثمانية ملايين دولار أمريكي، وهو أكبر تمويل لرأس المال المخاطر في مصر حتى الآن. وقدم حزمة التمويل كل من «بيكو كابيتال»، صندوق الاستثمار الإقليمي لدعم الشركات الناشئة، وشركة «النمو الرقمي لأفريقيا» الإستثمارية، وشركة استثمار رأس المال المخاطر «سيليكون بادية» ومقرها الأردن.
في وقتٍ سابق من العام، أعلنت شركة سامسونج للإلكترونيات أنها استحوذت مؤخرا على 100٪ من أسهم شركة (كناين) الناشئة المصرية. وفي عام 2015، استحوذ اتحادٌ من المستثمرين الدوليين على 85 ٪ من أسهم الشركة المصريّة التي تعنى بخدمات المدفوعات وتسديد الفواتير إلكترونياً (فــوري) مقابل 100 مليون دولار.
وبالإضافة إلى تعزيز قطاع ريادة المشاريع، تحاول مصر أيضًا بناء صناعة تكنولوجيا محلية. على سبيل المثال، أطلقت شركة (سيكو تكنولوجي) العام الماضي أول هاتف محمول مصري تم تصنيعه بمكونات محلية بنسبة 45٪ ويستهدف شريحة ذوي الدخل المنخفض والمهتمين بالتكلفة.
وعلى الرغم من هذه الخطط الطموحة والاستثمارات الكبيرة، من غير المحتمل أن تتحقق الإمكانات الحقيقية لقطاع الإقتصاد الرقمي في مصر إذا لم تتوفر الأسس التنظيمية وفقاً للمعايير العالمية. وعلى هذا الصعيد، أعدت الحكومة بالفعل مشروع قانون لتنظيم التجارة الإلكترونية، حيث أن 2 ٪ فقط من التجارة الإلكترونية الوطنية يتم تنظيمها في الوقت الحالي.
وينظر البرلمان أيضًا في ضريبة القيمة المضافة بنسبة 14٪ على عملاء الإنترنت الأرضي، ويشمل ذلك الإعلانات التي يتم نشرها على وسائل التواصل الاجتماعي، فيما تبحث وزارة المالية المصرية حالياً إمكانية إلغاء الرسوم المفروضة على بيع خطوط الهاتف المحمول الجديدة، والتي دخلت حيز التنفيذ مطلع العام المالي الحالي، وأثرت بشكل كبير على مبيعات شركات الاتصالات ومشتريات المواطنين من الخطوط الجديدة.
فالضرائب المفرطة تهدد بتقليص حجم التعاملات والمدفوعات الإلكترونية، وتضرب حوافز دخول السوق المحتملة في مقتل، وتحول دون إضفاء الطابع الرسمي على قطاع السوق الموازي. وفي الوقت الذي تحاول فيه الحكومة تقديم خدمات تنافس مايقدمه القطاع الخاص، من خلال مواقع مثل (مصر فيس)، التي يعتقد أنها من المشاريع الحكومية، قد يتسبب ذلك في نفور المستثمرين الأجانب وخروج رواد المشاريع المحليين من السوق.
وبالإضافة إلى التحديات المتعلقة بالضرائب والسياسات التنافسية، فإن تمرير قانون تنظيم الصحافة والإعلام ومكافحة الجرائم الإلكترونية في الآونة الأخيرة يجعل مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي والنشطاء الرقميين في البلاد يفكرون مرتين قبل المشاركة. ومن المرجح أن يتم تمرير مشروع قانون حماية البيانات خلال الدورة البرلمانية الحالية، غير أن بنود مسودة القانون لاتزال غير واضحة في هذه المرحلة، بيد أنه من المحتمل أن يكون لها تأثيرات تتعلق بمشاركة البيانات، ومراقبتها، وتخزينها، ويمكن أن يكون لديها متطلبات توطين بيانات مشابهة للمعمول به في الصين وروسيا. وباختصار، فإن كل نواحي الأعمال التجارية عبر الإنترنت، من المحتوى الرقمي لبيانات المستخدم، ستكون خاضعة لرقابة حكومية صارمة، بما يحد من استخدام الإنترنت والاقتصاد الرقمي على نطاق أوسع.
مستقبل قطاع الاقتصاد الرقمي في مصر مشرق وواعد، لكن هناك أولويات ملحة للمضي قدمًا في تحقيق الأهداف الطموحة لاستراتيجية تكنولوجيا المعلومات والاتصالات لعام 2030 واستراتيجية التجارة الإلكترونية، ومن بينها زيادة القدرة على تحمل التكاليف والدخول على الإنترنت. كما أن هناك حاجة إلى مضاعفة الجهود المبذولة لجذب الاستثمارات من شركات التكنولوجيا العالمية، وضخ المزيد من الاستثمارات من قِبَل الشركات المحلية، ومتابعة الإصلاحات التنظيمية والاستثمارية في قطاع الاقتصاد الرقمي. وإذا تم اتخاذ هذه الخطوات، سيواصل قطاع الاقتصاد الرقمي في البلاد مسيرة نموه القوي، وقد يحقق نقلة نوعية تجعل البلاد مركزاً جديداً في المنطقة تنطلق منه الشركات الناشئة في الفضاء الرقمي العالمي، وتزدهر فيه بيئة الابتكارات الرقمية.